الأربعاء، 15 مايو 2013

نيتشه وجذور مابعد الحداثة | للصديق عمر @Thinghood




"الرجال الذين سيولدون بعد الممات – أنا على سبيل المثال – سيسوء فهمهم أكثر من المطابقين لعصرهم، لكنه سيُستمع إليهم بصفة أفضل. ولنقلها بأكثر صرامة: لن يكتب لنا أن نُفهم البتة؛ - من هنا تكون سلطتنا..." – نيتشه

إن في جملة كهذه لا يكتب نيتشه حقيقته فحسب بل يسطر قاعدة ارتبطت بالبشر وتأصلت فيهم! وإن لم تكن جملته هذه تصدق عليه فلا أدري أي شئ آخر سيصدق عليه!
في مثل هذه الجملة تبدأ رحلة مع كتاب ممتع حقيقة أعده د. أحمد عبدالحليم عطية بعنوان "نيتشه وجذور ما بعد الحداثة"
الكتاب عبارة عن تسعة دراسات حول فريدريك نيتشه، واحد من أهم وأشهر الفلاسفة.
ترتيب الدراسات كان حقيقة ممتازاً هذا إذا استثنينا "نيتشه فيلسوف العلمانية الأكبر" للمسيري الذي كان حقيقة بالنسبة لي دراسة عادية ولم تعجبني البتة. ولتكرر اسم المسيري كثيراً في الفترة الأخيرة من حولي، قرأت دراسته مرتين حتى لا أتهم جزافاً! لكن ما الذي يدعوني للقلق؟! إنما كل شيء هنا يعنيني لوحدي، أليس كذلك؟
بدأ الكتاب بدراسة طيبة عنوانها واضحاً "نيتشه في الفكر العربي المعاصر" لمعدّ الكتاب ويتتبع أول ظهور لاسم نيتشه كما زعم فرح أنطون بأنه أول من قدمه في سنة 1907 أي بعد سبع سنوات من وفاته. ثم يتتبع اهتمامات المثقفين من مقالات وكتابات عنه وشرح لفلسفته ومشكلة الترجمة له التي طالها عمليات الاقتطاع. ثم يأتي لترجمة فيلكس فارس ل"هكذا تكلم زرادشت" موضحاً الانتقادات عليها. ويصل أخيراً إلى أهم مافي الدراسة وهي دور عبدالرحمن بدوي مع نيتشه والصدح بأفكاره. حيث أن فكر نيتشه مثل لبدوي "الأساس النظري لتوجهه السياسي، المتمثل في انتمائه لحزب مصر الفتاة..."  وكذلك مدى تأثر كبار السياسة بكتابه "نيتشه".
كتب د. عبدالغفار مكاوي دراسة ممتازة لكن للأسف كانت جزءاً من دراسة أكبر  هنا يوضح مدى استفادة نيتشه بملاحظات النفسية لكن أعتقد أن الدراسة تكمن أهميتها ولو أنها مقتطعة! في المقاربة بينه وبين فرويد، ومحاولة الأخير إهمال الأول حتى يظهر مدى أصالة فكرته. لقد حاولت لو سالومي(التي لم طالها الإهمال عندنابالرغم من معاشرتها لرموز مثل نيتشه وريلكه وفرويد)في مذكراتها التوفيق بين مدرسة التحليل النفسي، والصيغ النفسية المختلفة عند نيتشه. وهنا فرويد -ويا للسخرية- أظنه قالها بلا وعي:) "أما نيتشه، الذي كثيراً ما تتطابق مشاعره ونظراته بصورة مذهلة مع النتائج المضنية للتحليل النفسي، فقد تجنبته طويلاً ولم يكن يرجع إلى السبق (أو الأولوية) بقدر ما يرجع إلى حرصي على المحافظة على حريتي" من هنا يمسك مكاوي من خاصرة فرويد فهذه النقطة فعلا تأتي على عكس ما أراده فرويد فهو ببساطة "لم يستطع إخفاء اهتمامه بنفي أي تأثير عليه من نيتشه، فكأني به قد وقع في زلة من زلات اللسان أو القلم التي تثبت ما حاول أن ينكره أو يخفيه!"
دراسة "نيتشه والنزعة الأنثوية" التي كتبتها عطيات أبو السعود واحدة من أجمل الدراسات في الكتاب، لقد ابتدرت الكاتبة بسؤال ملحاً "هل هناك فلسفة أنثوية؟... ما هي الأسس التي ارتكزت عليها النزعة الأنثوية؟ وهل يمكن للرجال – باعتبارهم الجنس الذي سيطر على تاريخ الفلسفة عبر صورها الطويلة – أن يكتبوا بطريقة أنثوية؟ وما هي أهداف هذا الاتجاه؟" وثم تتجه صوب واحد من أكثر الكتاب والفلاسفة شهرة في عداءه على المرأة ومن ثم إثبات تأثيره، سلباً، إجاباً، على النزعة الأنثوية.  بشكل طبيعي عندما تتحدث عن المرأة عند نيتشه ستعود للحديث عن دور أمه، ودور أخته، والأخيرة كانت متملكة، ولقد سعت بشكل رهيب لإحداث القطيعة بينه وبين لو سالومي وبول ري ومالفيدا فون ميزنبورغ، وكثيراً ما كان يتذمر نيتشه منها "إن أناساً كشقيقتي هم حتماً أخصام لدودون لطريقة تفكيري ولفلسفتي، وهذا يقوم على طبيعة الأشياء الدائمة..." وكذلك ردد "أنا لا أحب النفوس التي تشبه نفسك، يا أختي المسكينة". لقد تم إهمال كتابات نيتشه حول آراء النساء، وفيما يبدو أن كاوفمان مثلا رأى أنه يمكن فهم فلسفة نيتشه جيدا إذا استبعدنا رأيه حول النساء مما يوحي عظم نقده وفكره لكن سطحية آراءه حول النساء.
لكن لا شيء يبدو على ما هو عليه عند نيتشه!
في "هكذا تكلم زرادشت" وضع نيتشه عبارته الشهيرة التي لن تُنسى: "إذا ما ذهبت إلى النساء فلا تنسى السوط" وهي كثيراً ما تقتبس لتبيين عداء نيتشه للمرأة. لكن هناك الكثير تخبئه هذه الجملة، في حديث أجراه نيتشه مع سباستيان هاوسمن ذكر أمامه فقرة السوط هذه قال: "نظر إلي نيتشه مندهشاً وقال لي: ولكن أرجوك، من المؤكد أن هذا لا يمكن أن يسبب لك أي مشكلة! أقصد أن من الواضح ومن المفهوم أنها كانت مجرد دعابة، أسلوب رمزي مبالغ فيه في التعبير. إذا ما ذهبت إلى إمرأة فلا تجعلهاتخضعك بنزعتها الحسية. لا تنس أنك السيد وأن مهمة المرأة الحقيقية التي ليست مهمة بسيطة هي أن تخدم الرجل بأن تكون له رفيقاً ودوداً يجمل حياته"
لكن،
يقرن نيتشه المرأة بالحقيقة وهو بذلك يعلن الحرب على الحقيقة ويعطي للحقيقة صفات المرأة بأنها تشوبها الألغاز ويحيطها الغموض. فتبدو نصيحته بفقرة السوط في اعتقاده أنها الحقيقة وليست المرأة فقط! لا ننسى أنه صدّر كتابه "افترض أن الحقيقة امرأة" وجملة السوط إنما تأتي متأخرة! فعندما يمارس هذا الأسلوب التهكمي للحقيقة بافتراضها أنها امرأة ينتج عنه الكثير من التفسيرات. فهو يسخر بكل بساطة من تاريخ الفلسفة كاملاً! وذلك أن في افتراضه أن الحقيقة امرأة وأن المنهج الفلسفي هو إبداع ذكوري. فيعني أن الفلاسفة أغبياء لأنهم لم يكسبوا قلبها. وهو تهكم لهدم أهم موضوعات الفلسفة في البحث عن الأصول (مشكلة الحقيقة)!

يبدو أني أكثر إنفعالاً عندما يتم الحديث عن نيتشه!! :-)
الكتاب فيه الكثير من الدراسات الممتازة. وهو جهد رائع يشكر عليه د. أحمد عبدالحليم عطية في جمعه هذه الدراسات والمساهمة بدراساتين له في كتاب واحد لتعمّ الفائدة ويسهل على القارئ غير المختص بالربط بدلاً من التشتيت.

قد أتفق كثيراً مع نيتشه الذي قال مرة "إن تطور شيءٍ ما، أو عرف ما، أو عضوٍ ما، ليس تقدماً تدريجياً نحو هدف، ولا هو تقدم تدريجي منطقي ومباشر يتم بلوغه بحد أدنى من القوى والنفقات، بل هو تعاقب ثابت لظواهر إخضاع عنيفة إلى هذا الحد أو ذاك، مستقلة الواحدة عن الأخرى إلى هذا الحد أو ذاك..."

عمر
@Thinghood

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق